الآية رقم (7 : 11)
{ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم . يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه، وإبلاغه عنه، وقبوله منه فقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذا قلتم سمعنا وأطعنا} وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم كما قالوا: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. وقال اللّه تعالى: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين} وقيل هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه. وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} قاله مجاهد والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي، واختاره ابن جرير. ثم قال تعالى: {واتقوا الله} تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر، فقال: {إن الله عليم بذات الصدور} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه} أي كونوا قوامين بالحق للّه عزّ وجلّ لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا {شهداء بالقسط} أي بالعدل لا بالجور، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: (أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟) قال: لا، فقال: (اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)، وقال: (إني لا أشهد على جور) قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة.
وقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم المراد بالقوم: اليهود، وقد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن جرير. وقال السهيلي: المراد غورث بن الحارث الغطفاني، وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً في بعض غزواته تحت شجرة، والسيف معلق فيها، فاخترط السيف، واستيقظ رسول اللّه والسيف في يده، فقال له: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: (الله تعالى) فقبض اللّه يده، وقعد إلى الأرض، حتى جاء أصحاب رسول الله وهو عنده، وقيل: إنه عمرو بن جحاش اليهودي، كما ذكره ابن إسحاق، وحكاه عنه السهيلي على أن لا تعدلوا} أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً، ولهذا قال: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه، ودلَّ الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في قوله: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} وقوله: {هو أقرب للتقوى} من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً}، وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {واتقوا الله إن اللّه خبير بما تعملون} أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال بعده: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} أي لذنوبهم {وأجر عظيم} وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة، ثم قال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجوز فيه، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم}، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: (الله عزَّ وجلَّ) قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الله)، قال فَشَامَ فشام السيف: فأدخله في قرابه الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه وقصة هذا الأعرابي وهو غورث ابن الحارث"ثابتة في الصحيح. وقال ابن عباس: إن قوماً من اليهود صنعوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاماً ليقتلوهم، فأوحى اللّه إليه بشأنهم، وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن الأشرف واصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف، وذكر محمد بن أسحاق بن يسار: أنها نزلت في شأن بني النضير حين ارادوا أن يلقوا على رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع اللّه النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالأوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وقوله تعالى: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} يعني من توكل على اللّه كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه.
الآية رقم (14)
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون }
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين اليهود والنصارى فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم، وطرداً عن بابه وجنابه، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق وهو العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى: {ولقد أخذ الله ميقاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة للّه ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب، وهكذا لما بايع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيباً، ثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنهم، وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد اللّه بن رواحة، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن اصامت، وسعد بن عبادة، وعبد اللّه بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمر بن خنيس رضي اللّه عنهم، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاق رحمه الله. والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
قال الإمام أحمد عن مسروق قال: كنا جلوساً عند عبد اللّه بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا ابا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد اللّه: ما سألني منها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: (اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل)
وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً)، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ، فسالت، أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: (كلهم من قريش) ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراً، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الإثني عشر الأئمة الإثني عشر الذين يعتقد فيهم الروافض لجهلهم وقلة عقلهم. وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً وهم هؤلاء الخلفاء الإثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة. وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الإثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وقال الله إني معكم} أي بحفظي وكلاءتي ونصري {لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} أي صدقتموهم فيم يجيئونكم به من الوحي {وعزرتموهم} أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق {وأقرضتم اللّه قرضاً حسناً} وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته {لأكفرن عنكم سيئاتكم} أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها {ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود. وقوله: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال. ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، {يحرفون الكلم عن مواضعه} أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذاً باللّه من ذلك {ونسوا حظاً مما ذكروا به} أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف اللّه تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها. وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا أعمال قويمة {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم {فاعف عنهم واصفح} وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض السلف (ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه) وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: {إن الله يحب المحسنين} يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية: {فاعف عنهم واصفح} منسوخة بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} الآية.
وقوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم} أي ومن الذين ادعوا أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسو كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته وموازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله اللّه إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود: خالفوا المواثيق ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى: {فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها: فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم قال تعالى: {وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون} وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب عزَّ وجلَّ وتقد عن قولهم علواً كبيراً من جعلهم له صاحبة وولداً، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
الآية رقم (15 : 16)
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . - يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير} أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على اللّه فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه. وقد روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب لقوله تعالى: {يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} فكان الرجم مما أخفوه "أخرج ابن جرير: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم، فقال: (أيكم أعلم؟) فاشاروا إلى ابن صوريا، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى والذي رفع الطور والمواثيق، فقال: إنه لما كثر فينا، جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله: {يا أهل الكتاب - إلى قوله - صراط مستقيم}"ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال: {قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة {ويخرجهم من لظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} أي ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة.
الآية رقم (17 : 18)
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير . وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير }
بقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح بن مريم وهو عبد من عباد اللّه، وخلق من خلقه أنه هو الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ثم قال مخبراً عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه {قل فمن يملك من اللّه شيئاً إن اراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً} أي لو أراد ذلك فمن ذا الذي كان يمنعه منه؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟ ثم قال: {وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء} أي جميع الموجودات ملكه وخلقه وهو القادر على ما يشاء لا يسال عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته، هذا رد على النصارى عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى راداً على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم: {وقال اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا، ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى ابي وابيكم يعني ربي وربكم، ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه. قال اللّه تعالى راداً عليهم: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} أي لو كنم كما تدعون أبناءه وأحباءه فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} وهذا الذي قال حسن. {بل أنتم بشر ممن خلق} أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي هو فعَّال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، {وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه {وإليه المصير} أي المرجع والمآب إليه فيحكم في عباده بما يشاء وهو العادل الذي لا يجوز. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن آصا، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى اللّه وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد! نحن واللّه أبناء اللّه وأحباؤه؛ كقول النصارى، فأنزل اللّه فيهم: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} "رواه ابن أبي حاتم وابن جرير"الآية.
الآية رقم (19)
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير }
يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه أرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال: على فترة من الرسل، أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي، فقال قتادة: كانت ستمائة سنة، ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، وذكر ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة. وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي) وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان، والمقصود أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود والنصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد: حدث يحيى بن سعيد عن عياض بن حماد المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: (وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم إن اللّه عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من بني إسرائيل. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان. ثم إن اللّه أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: يا رب إذن يثلغوا أي يشدخوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا دين له، والذين هم فيكم تبع أو تبعاً - شك يحيى - لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير: الفاحش)
والمقصود من إيراد هذا الحدث قوله: (وإن اللّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل)، وفي لفظ مسلم من أهل الكتاب، وكان الدين قد التبس على الأرض حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتكرهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء، ولهذا قال تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر} أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، {فقد جاءكم بشير ونذير} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، {واللّه على كل شيء قدير} قال ابن جرير: معناه إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني.
الآية رقم (20 : 26)
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين }
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: {وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء}، أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى اللّه، ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى بن مريم عليه السلام، ثم أوحى اللّه إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد اللّه المنسوب إلى إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم . وقوله: {وجعلكم ملوكاً} قال عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله {وجعلكم ملوكاً} قال: الخادم والمرأة والبيت وعنه قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً. وقال ابن جرير عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص وساله رجل فقال: أسلنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد اللّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال:نعم، قال: فأنت من الأغنياء. فقال: إن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك. وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب وخادم ودار، ورواه ابن جرير. وقال السدي قي قوله {وجعلكم ملوكاً} قال: يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله، وقد ورد في الحديث: (من أصبح منكم معافى في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها) "لفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجة عن عبد اللّه بن محصن: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
وقوله تعالى: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال: {وفضلناهم على العالمين} وقال تعالى إخباراً عن موسى: {قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضَّلكم على العالمين} والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند اللّه، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملوكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأوسع مملكة وأدوم عزاً. قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}. وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وقيل: المراد {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، يظللهم به من الغمام، وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم. ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها، حتى خرجوا مع موسى، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول اللّه موسى عليه السلام بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره، فعوقبوا في التيه، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر اللّه تعالى، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال: {يا قوم ادخلو الأرض المقدسة} أي المطهرة. عن ابن عباس قال: هي الطور وما حوله، وكذا قال مجاهد وغير واحد المراد بالأرض المقدسة: ببيت المقدس وما حوله، ويقال لها: إيليا، وتفسيرها: بيت اللّه. ويعني بالجبارين: قوماً كانوا فيها من العماليق وهم بنو عملاق بن لاوذ
وقوله تعالى: {التي كتب الله لكم} أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم، {ولا ترتدوا على أدباركم} أي تنكلوا عن الجهاد {فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين ذوي خلق هائلة وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم.
وقوله تعالى: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} أي فلما نكل بنوا إسائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول اللّه موسى حرضهم رجلان، للّه عليهما معمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم: {قال رجلان من الذين يخافون} أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس، ويقال إنهما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا ضبط في سفر العدد: يفنه: بفتح الياء وضم الفاء، وتشديد النون، وقال السهيلي: إنهما يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، والآخر: كوطت بن يوفنا. قال: وأحسبه من سبط يهوذا بن يعقوب. وقال: ويوشع هو الذي حارب الجبارين. واختلف: أكان موسى معه في تلك الغزاة أم لا؟ وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده في مكان يقال له غور عاجر، عرف باسم الرجل الغال. كما ذكره الطبري ؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله، فقالا: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم اللّه على أعدائكم، وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فيهم شيئاً {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون}، وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم، وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال: إنهم لما نكلوا على الجهاد، وعزموا على الإنصراف والرجوع إلى مصر، سجد موسى وهرون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاماً لما هموا به، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما، ولاما قومهما على ذلك، فيقال: إنهم رجموهما، وجرى أمر عظيم وخطر جليل.
وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي اللّه عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم في قتال النفير فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشيروا علي أيها المسلمون) وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ، فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول اللّه فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صُدق صبر وصدق بضمتين فيها جمع صبور وصدوق في اللقاء لعل اللّه أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك. وممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي رضي اللّه عنه، كما قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: لقد شهدت من المقداد مشهداً، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك وسره ذلك، وهكذا رواه البخاري في المغازي، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد اللّه قال، قال المقداد يوم بدر، يا رسول اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى: {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعياً عليهم: {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر اللّه ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هرون {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} قال ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم، وكذا قال الضحاك: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره: افرق افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر:
يا رب فافرق بينه وبيني * أشد ما فرَّقت بين اثنين
وقوله تعالى: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} الآية، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه. وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة: من تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً: تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك نزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام. عن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض{الآية. قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى. وهذا قطعة من حديث الفتون. ثم كانت وفاة هرون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام، وأقام اللّه فيهم يوشع بن نون عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال: إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر. فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي؛ فحبسها اللّه تعالى حتى فتحها وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً، وهم يقولون حطة: أي حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، ودخلوا يزحفون على أستاههم، هم يقولون: حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} قال: فتاهوا أربعين سنة، قال: فهلك موسى وهرون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأته، فقال: فيكم الغلول، قدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلاً، فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك، فأخرجه، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته. وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله: {فإنها محرمة عليهم} هو العامل في اربعين سنة، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد، قال: خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن عوج ابن عنق قتله موسى عليه السلام قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه قال: وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال: وما ذالك إلا بعد التيه، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه.
وقوله تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين} تسلية لموسى عليه السلام عنهم، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم ومخالفتهم للّه ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم؛ مع أن بين أظهرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك نحن أبناء اللّه وأحباؤه، فقبح اللّه وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضى لهم فيه بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد من جميع الوجود.
الآية رقم (27 : 31)
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين . لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين . إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين . فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين . فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين }
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما قابيل وهابيل ، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغياً عليه وحسداً له، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزَّ وجلَّ ففاز المقتول بوضع الآثان والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق} أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة أخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف. وقوله: {بالحق} أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وهم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان؛ كقوله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق}، وقوله تعالى: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} كان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن اللّه تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة، فارد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قرباناً، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه.
قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود: أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ومعه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، كان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه، وقال هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها، وأنهما قربا قرباناً إلى اللّه عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربانا هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل {إنما يتقبل الله من المتقين} "رواه ابن جرير"وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال: إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقرباً قرباناً، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه، وأن صاحب الحرث قرَّب أشر حرثه الكوزن والزوان غير طيبة بها نفسه وإن اللّه عزَّ وجلَّ تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال: وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه. وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: أن آدم أمر بانه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحن من ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي. ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، قال له أبوه: يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بذر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحاً، وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وبعضهم يقول: قرب بقرة؛ فأرسل اللّه ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله."رواه ابن جرير"، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تقبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره: إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب، واللّه أعلم. ولم يتقبل من قابيل، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً.
ومعنى قوله: {إنما يتقبل اللّه من المتقين} أي ممن اتقى الله في فعله ذلك. وفي الحديث عن معاذ بن جبل، قال: يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد، أي المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر، قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة.
وقوله تعالى: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف اللّه رب العالمين} يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل اللّه قربانه لتقواه، حين توعده أخوه بالقتل عن غير ما ذنب منه إليه {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة {إني أخاف اللّه رب العالمين} أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب، قال عبد الله بن عمرو: وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) وقال الإمام أحمد عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال، عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالك (إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي) قال: افرايت إن دخل على بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ فقال: (كن كابن آدم)، قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الامة {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} لعثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى: {إني اريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ورذلك جزاء الظالمين} قال ابن عباس ومجاهد: أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك، وقال آخرون: يعني بذلك إني اريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي. عن مجاهد {إني أريد أن تبوء بإثمي وأثمك} يقول: إني اريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً. قلت : وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له (ما ترك القاتل على المقتول من ذنب) وقد روى الحافط أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا ولكن ليس به فقال عن عائشة، قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه)، وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن اللّه يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم. فإن قيل: كيف أرد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله؟ والجواب أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه. وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجراً لو انزجر، ولهذا قال: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} أي تتحمل إثمي وإثمك {فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} وقال ابن عباس: خوَّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر. وقوله تعالى: {فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة، وهذا الزجر. وقد تقدم أنه قتله بحديدة في يده؛ وقال السدي: {فطوعت له نفسه قتل أخيه} فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال، فأتاه يوماً من الايام، وهن يرعى غنماً له، وهو نائم، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعراء. رواه ابن جرير. وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. وقال عبد اللّه ابن وهب: أخذ براسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال: أتريد أن تقتله، قال: نعم قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه، قال: فأخذها فألقاها عليه فشدخ راسه، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً، فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل، فقالت له: ويحك وأي شيء يكون القتل؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، قالت: ذلك الموت؟ قال: فهو الموت، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال: مالك؟ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه، فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبني منها براء. رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {فأصبح من الخاسرين} أي في الدنيا والآخرة، واي خسارة أعظم من هذه. عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل)، وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود.
وقوله تعالى: {فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} قال السدي: لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث اللّه غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثى عليه، فلما رآه قال: {يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي}؟ وقال ابن عباس: جاء غراب إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى وراه، فقال الذي قتل أخاه {يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوراي سوأة أخي}، وقال الضحاك عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث اللّه الغرابين فرآهما يبحثان فقال: {أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} فدفن أخاه وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له اللّه عزَّ وجلَّ: يا قابيل اين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رقيباً، فقال اللّه: إن صوت دم أخيك ليناديني من الارض الآن، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها، فتلقت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الارض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعاً تائهاً في الارض.
وقوله تعالى: {فأصبح من النادمين} قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران. فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله: (إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل)، وهذا ظاهر جلي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن اللّه ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم) "أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري مرفوعاً"والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد وابن جبير: أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله وجعل اللّه وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا للّه وإنا إليه راجعون.
الآية رقم (32 : 34)
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون . إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم }
يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدوانا {كتبنا على بني إسرائيل} أي شرعنا لهم وأعلمناهم {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال: {فكأنهما أحيا الناس جميعاً} وقال الأعمش عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنهما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك، فأجوراً غير مأزور، قال: فانصرفت ولم أقاتل. وقال ابن عباس هو كما قال اللّه تعالى: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنهما قتل الناس جميعاً ومن أحياهال فكأنما أحيا الناس جميعاً} وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه؛ وهكذا قال مجاهد، ومن أحياها أي كف عن قتلها. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {فكأنما قتل الناس جميعاً} يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاً. وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً، هذا قول وهو الأظهر، وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم. وقال مجاهد في رواية {ومن أحياها} أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة. وقال الحسن وقتادة في قوله: أنه {من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً} هذا تعظيم لتعاطي القتل. قال قتادة عظيم واللّه وزرها، وعظيم واللّه أجرها. وقال ابن المبارك عن سليمان الربعي قال، قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا. وقال ألإمام أحمد: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول اللّه اجعلني على شيء أعيش به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها) قال: بل نفس أحييها، قال: (عليك بنفسك)، وقوله تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات} أي بالحجيج والبراهين والدلائل الواضحة {ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة و النضر يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث قول: {ثم أنتم هؤلاء تقلتون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}.
وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} الآية. المحاربة هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب: إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الارض، وقد قال الله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل واللّه لا يحب الفساد}، ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى - إن اللّه غفور رحيم} نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب اللّه ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب. ورواه ابو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي اصابه. وقال ابن عباس في قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} الآية. قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيّر اللّه رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن جرير.
وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في الحرورية {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} رواه ابن مردويه، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (الا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها) فقالوا: بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا، لفظ مسلم. وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون، وعند البخاري، قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا اللّه ورسوله. وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك: أنا ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة؛ قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشأ حتى ماتوا، ونزلت: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} "رواه أبو داود والترمذي والنسائي"الآية. وقد رواه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قلت: قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانهما، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، وساتاقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطع أيدي قوم وارجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا، بحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه اللّه وأثابه. وقال ابن جرير: كان أناس أتوا رسول للّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فبايعوه وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون، ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها، قال: فبينما هم كذلك إذا جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا النعم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: (أن يا خيل اللّه اركبي)، قال: فركبوا، لا ينتظر فارس فارساً، قال: وركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم، حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللّه: {إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله} الآية، قال: فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسمر الأعين، قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، وقال: (ولا تمثلوا بشيء) وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا القول فيه نظر. ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ، وقا بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، وفيه نظر، فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال: لم يسمر النبي أعينهم، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر. فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل، وفي رواية سمر أعينهم.
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: {ويسعون في الأرض فساداً} وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. وقوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} قال ابن عباس في الآية: من شَهَر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِرَ به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك، ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك في القرآن، كقوله في كفارة الفدية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وكقوله في كفارة اليمين: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبو، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة. واختلفوا، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو يقتله برمح أو نحوه، أو يقتل أولاً ثم يصلب، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وباللّه الثقة، وعليه التكلان. وأما قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية. وقال عطاء الخراساني : ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان: أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام. وقال آخرون: المراد بالنفي ههنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي ههنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
يتبع...
{ تابع من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو... ... }
وقوه تعالى: {ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أديهم وارجلهم من خلاف ونفيهم، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال: أخذ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً، يَعْضَهُ: يرمي غيره بالإفك والكذب والبهتان فمن وفى منكم فأجره على اللّه تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره اللّه فأمره إلى اللّه إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وعن علي قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فاللّه أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فاللّه أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه) "رواه أحمد والترمذي وابن ماجة " وقال ابن جرير {ذلك لهم خزي في الدنيا}: يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا فبل الآخرة {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم. وقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم} أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك، فظاهر. وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة.
وروى ابن جرير عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى ابي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي اللّه عنه بعدما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو موسى: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فإن يك صادقاً فسبيل من صدق، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء اللّه، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم روى ابن جرير أن علياً الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: {قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم} فوقف عليه، فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائباً، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى ابي هريرة في أغمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه، ولا قتل، فترك من ذلك كله، قال: وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعاً.
الآية رقم (35 : 37)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون . إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم . يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم }
يقول تعال آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الإنكفاف من المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها {وابتغوا إليه الوسيلة} قال ابن عباس: أي القربة، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر ابن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة)
حديث آخر : في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى اللّه عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وارجوا أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)
حديث آخر : عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة)، قيل: يا رسول اللّه وما الوسيلة؟ قال: (أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجوا أن أكون أنا هو) "رواه أحمد والترمذي"عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : )سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)
وقوله تعالى: {وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء، من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم. والتاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة، التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة، الآمنة الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم لا ييأس، ويحيى لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم} أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص ولهذا قال
{ولهم عذاب أليم} أي موجع، {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} كما قال تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} الآية. فلا يزالون يريدوهن الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانة بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها {ولهم عذاب مقيم} أي دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول شر مضجع، فيقال له تفتدي بقراب الأرض ذهباً؟ قال فيقول: نعم يا رب، فيقول اللّه تعالى: كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار) "رواه مسلم والنسائي عن أنَس بن مالك مرفوعاً"وعن جابر ابن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: )يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة( قال: فقلت لجابر بن عبد الله يقول الله {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} قال: أتل أول الآية {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به} الآية، ألا إنهم الذين كفروا "رواه الحافظ ابن مردويه"وعن طلق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد اللّه، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال: يا طلق أتراك أقرأ لكتاب اللّه وأعلم بسنّة رسول الله مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال: صمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرجون من النار بعدما دخلوا) ونحن نقرأ كما قرأت. رواه ابن مردويه.